الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ؛ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الْجَهْرَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارَ بِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَلُّ، فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ، وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِلُّ فَيَسْتَرِيحُ بِالْإِسْرَارِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِاللَّيْلِ جَهَرَ بِالْأَكْثَرِ، وَإِنْ قَرَأَ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ بِالْأَكْثَرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ فَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ: الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ. نَعَمْ مَنْ قَرَأَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ.
وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْقُرْآنِ لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَى فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى آيَةٍ وَحَضَرَهُ كَلَامٌ فَقَدِ اسْتَقْبَلَهُ الَّتِي بَلَغَهَا وَالْكَلَامُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ كَلَامَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ، وَأَيَّدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهُ.
لَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا، فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (يُوسُفَ: 2)، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} (فُصِّلَتْ: 44). وَقِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ مُطْلَقًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ؛ لَكِنْ صَحَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، حَكَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ. وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ قِرَاءَتُهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِعْجَازُ لِنَقْصِ التَّرْجَمَةِ عَنْهُ، وَلِنَقْصِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْسُنِ عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ، وَإِذَا لَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ لِمَكَانِ التَّحَدِّي بِنَظْمِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجُوزَ التَّرْجَمَةُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ، قِيلَ لَهُ: فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ، قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجِزَ عَنِ الْبَعْضِ؛ أَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ إِبْدَالُ لَفْظَةٍ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِخِلَافِ التَّفْسِيرِ. وَمَا أَحَالَهُ الْقَفَّالُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنُ بْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا فَقَالَ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ التَّرَاجِمِ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ الْقُرْآنَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَلْسُنِ؛ كَمَا نُقِلَ الْإِنْجِيلُ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ إِلَى الْحَبَشِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، وَتُرْجِمَتِ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَجَمَ لَمْ تَتَّسِعْ فِي الْكَلَامِ اتِّسَاعَ الْعَرَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْقُلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (الْأَنْفَالِ: 58) لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُؤَدِّيَةً عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي أُودِعَتْهُ حَتَّى تَبْسُطَ مَجْمُوعَهَا، وَتَصِلَ مَقْطُوعَهَا، وَتُظْهِرَ مَسْتُورَهَا، فَتَقُولَ إِنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ هُدْنَةٌ وَعَهْدٌ، فَخِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَنَقْضًا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ مَا شَرَطْتَهُ لَهُمْ، وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ؛ لِتَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ عَلَى اسْتِوَاءٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (الْكَهْفِ: 11) انْتَهَى. فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَصَوُّرِهِ، وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّرْجَمَةِ مَخْصُوصٌ بِالتِّلَاوَةِ؛ فَأَمَّا تَرْجَمَتُهُ لِلْعَمَلِ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بَيَانِ الْمُحْكَمِ مِنْهُ، وَالْغَرِيبِ الْمَعْنَى بِمِقْدَارِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلَا يُتَعَرَّضَ لِمَا سِوَى ذَلِكَ، وَيُؤْمَرَ مَنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مُحْكَمَةٍ لِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْإِشْرَاكِ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ قَدْ تَنْقُصُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُتَرْجَمِ عِنْدَهُ وَاحِدًا قَلَّ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْمَعَانِي إِذَا كَثُرَتْ؛ وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُ. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ: " أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِشَرِيطَةٍ؛ وَهَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْقَارِئُ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا أَصْلًا. قَالُوا: وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ تَشْهَدُ أَنَّهَا إِجَازَةٌ كَلَا إِجَازَةٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ- خُصُوصًا الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ مُعْجِزٌ- فِيهِ مِنْ لَطَائِفِ الْمَعَانِي وَالْإِعْرَابِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِسَانٌ مِنْ فَارِسِيَّةٍ وَغَيْرِهَا ". وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ؛ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ تَحْقِيقٍ وَتَبَصُّرٍ، وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ صَاحِبَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالشَّوَاذِّ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِهِ؛ فَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ: كَانَ يَمُدُّ مَدًّا؛ يَعْنِي أَنَّهُ يُمَكِّنُ الْحُرُوفَ وَلَا يَحْذِفُهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْقُرَّاءُ بِالتَّجْوِيدِ فِي الْقُرْآنِ، وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِسْرَاعِ، فَقِرَاءَةُ حِزْبٍ مُرَتَّلٍ مَثَلًا فِي مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ، أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ حِزْبَيْنِ فِي مِثْلِهِ بِالْإِسْرَاعِ.
يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْخِيمِ وَالْإِعْرَابِ لِمَا يُرْوَى: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ، وَلَا يُخْضَعَ الصَّوْتُ فِيهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ، قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ فِي كَرَاهَةِ الْإِمَالَةِ الَّتِي هِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ نَزَلَ بِالتَّفْخِيمِ، فَرُخِّصَ مَعَ ذَلِكَ فِي إِمَالَةِ مَا يَحْسُنُ إِمَالَتُهُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَ فِي قِرَاءَتِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ إِعْرَابٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ.
وَأَنْ يَفْصِلَ كُلَّ سُورَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا إِمَّا بِالْوَقْفِ أَوِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَقْرَأَ مِنْ أُخْرَى قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى؛ وَمِنْهُ الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ لِوَقْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ آيَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى آخِرِ السُّوَرِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ؛ كَمَا فِي سُورَةِ الْفِيلِ مَعَ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ أَوْلَى فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقِرَاءَاتِ مِنْ تَتَبُّعِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ. وَمِنْهَا؛ أَنْ يَعْتَقِدَ جَزِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ أَهَّلَهُ لِحِفْظِ كِتَابِهِ، وَيَسْتَصْغِرَ عَرَضَ الدُّنْيَا أَجْمَعَ فِي جَنْبِ مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْتَهِدَ فِي شُكْرِهِ. وَمِنْهَا؛ تَرْكُ الْمُبَاهَاةِ فَلَا يَطْلُبْ بِهِ الدُّنْيَا؛ بَلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَلَّا يَقْرَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، مُجَانِبًا لِلذَّنْبِ مُحَاسِبًا نَفْسَهُ، يُعْرَفُ الْقُرْآنُ فِي سَمْتِهِ وَخُلُقِهِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمَلِكِ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَلْيَتَجَنَّبِ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَسْوَاقِ، قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ: وَأَلْحَقَ بِهِ الْحَمَّامَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ سِرًّا حَيْثُ لَا لَغْوَ فِيهَا.
عَدَّ الْحَلِيمِيُّ مِنَ الْآدَابِ تَرْكَ خَلْطِ سُورَةٍ بِسُورَةٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآتِيَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَحْسَنُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لِكِتَابِ اللَّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَالْأَوْلَى بِالْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَنْقُولِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: تَأْلِيفُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْلِيفِكُمْ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قِرَاءَةِ آيَةٍ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقْرَأُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ، وَبِعُمَرَ يَجْهَرُ بِصَوْتِهِ- وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ- فَقَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ؛ فَقَالَ: كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: قَالَ بِلَالٌ: أَخْلِطُ الطَّيِّبَ بِالطَّيِّبِ، فَقَالَ: اقْرَأِ السُّورَةَ عَلَى وَجْهِهَا، أَوْ قَالَ: عَلَى نَحْوِهَا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَلِيحَةٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا قَرَأْتَ السُّورَةَ فَأَنْفِذْهَا. وَرَوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ فَقَرَأَ مِنْ سُوَرٍ شَتَّى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ حِينَ انْصَرَفَ، فَقَالَ: شَغَلَنِي الْجِهَادُ عَنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ. وَرَوَى الْمَنْعَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ، كَمَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِلَالٍ، وَكَمَا اعْتَذَرَ خَالِدٌ عَنْ فِعْلِهِ، وَلِكَرَاهَةِ ابْنِ سِيرِينَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَى حَدِيثَ بِلَالٍ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ. وَهُوَ أَثْبَتُ وَأَشْبَهُ بِنَقْلِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ؛ وَزَادَ: مَثَلُ بِلَالٍ كَمَثَلِ نَحْلَةٍ غَدَتْ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ، ثُمَّ يَصِيرُ حُلْوًا كُلُّهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالنَّحْلَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ مِنَ الثَّمَرَاتِ: حُلْوِهَا، وَمُرِّهَا، وَحَامِضِهَا، وَرَطْبِهَا، وَيَابِسِهَا، وَحَارِّهَا، وَبَارِدِهَا، فَتُخْرِجُ هَذَا الشِّفَاءَ، وَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحُلْوِ فَقَطْ لِحَظِّ شَهْوَتِهِ فَلَا جَرَمَ أَعَاضَهَا اللَّهُ الشِّفَاءَ فِيمَا تُلْقِيهِ؛ كَقَوْلِهِ: " عَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ فَتَأْكُلُ ". فَبِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْصِدُ آيَاتِ الرَّحْمَةِ وَصِفَاتِ الْجَنَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ عَلَى نَحْوِهَا كَمَا جَاءَتْ مُمْتَزِجَةً؛ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِدَوَاءِ الْعِبَادِ وَحَاجَتِهِمْ، وَلَوْ شَاءَ لَصَنَّفَهَا أَصْنَافًا وَكُلُّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ مَزَجَهَا لِتَصِلَ الْقُلُوبَ بِنِظَامٍ لَا يُمَلُّ؛ قَالَ: وَلَقَدْ أَذْهَلَنِي يَوْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (الْفُرْقَانِ: 25 وَ 26) فَقُلْتُ: يَا لَطِيفُ؛ عَلِمْتَ أَنَّ قُلُوبَ أَوْلِيَائِكَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَنْكَ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ تِلْكَ الْأَهْوَالُ لَا تَتَمَالَكُ؛ فَلَطَفْتَ بِهِمْ فَنَسَبْتَ (الْمُلْكَ) إِلَى أَعَمِّ اسْمٍ فِي الرَّحْمَةِ فَقُلْتَ: (الرَّحْمَنَ) لِيُلَاقِيَ هَذَا الِاسْمُ تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَوْلُ، فَيُمَازِجَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَلَوْ كَانَ بَدَلُهُ اسْمًا آخَرَ، مِنْ عَزِيزٍ وَجَبَّارٍ لَتَفَطَّرَتِ الْقُلُوبُ، فَكَانَ بِلَالٌ يَقْصِدُ لِمَا تَطِيبُ بِهِ النُّفُوسُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى نِظَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِالشِّفَاءِ.
يُسْتَحَبُّ اسْتِيفَاءُ كُلِّ حَرْفٍ أَثْبَتَهُ قَارِئٌ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: هَذَا لِيَكُونَ الْقَارِئُ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَا هُوَ قُرْآنٌ، فَتَكُونَ خَتْمَةٌ أَصَحَّ مِنْ خَتْمَةٍ إِذَا تَرَخَّصَ بِحَذْفِ حَرْفٍ أَوْ كَلِمَةٍ قُرِئَ بِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ كُلِّ مَنِ اسْتَوْفَى كُلَّ فِعْلٍ امْتَنَعَ عَنْهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ أَجْمَعَ مِنْ صَلَاةِ مَنْ تَرَخَّصَ فَحَذَفَ مِنْهَا مَا لَا يَضُرُّ حَذْفُهُ.
وَيُسْتَحَبُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: سُئِلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَزِّئُ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَانَ يُجَزِّئُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا وَكَرِهَ قَوْمٌ قِرَاءَتَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ: لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمُخْتَارُ- وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ- أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَالِ الشَّخْصِ فِي النَّشَاطِ وَالضَّعْفِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا [بِلَا عُذْرٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَمْ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ. قَالَ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا] رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ: يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الزِّيَادَةِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ أَدَّى لِلْقُرْآنِ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَخْتِمَ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَلَاثٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو لِمَا عَلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ فِي قِرَاءَتِهِ، وَعَلِمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنِ اسْتَدَامَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّ لَهُ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ ذَلِكَ! إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ: إِنَّمَا الْآيَةُ مِثْلُ التَّمْرَةِ كُلَّمَا مَضَغْتَهَا اسْتَخْرَجْتَ حَلَاوَتَهَا. فَحُدِّثَ بِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: صَدَقَ؛ إِنَّمَا يُؤْتَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ السُّورَةَ أَرَادَ آخِرَهَا.
يُسَنُّ خَتْمُهُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَفَى الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ لِأَحْمَدَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ، وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ عِنْدَ خَتْمِهِ وَيَدْعُو. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا خَتَمَ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى؛ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ، وَهَى قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؛ أَخَذَهَا ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيٍّ، وَأَخَذَهَا أُبَيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَوَّاهُ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ مَوْقُوفًا عَلَى أُبَيٍّ بِسَنَدٍ مَعْرُوفٍ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّشْدِيدِ؛ وَاسْتَأْنَسَ لَهُ الْحَلِيمِيُّ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى أَبْعَاضٍ مُتَفَرِّقَةٍ؛ فَكَأَنَّهُ كَصِيَامِ الشَّهْرِ؛ وَقَدْ أُمِرَ النَّاسُ أَنَّهُ إِذَا أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ أَنْ يُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ. فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكَبِّرَ الْقَارِئُ إِذَا أَكْمَلَ عِدَّةَ السُّوَرِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّكْبِيرَ كَانَ لِاسْتِشْعَارِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ؛ قَالَ: وَصِفَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّوَرِ أَنَّهُ كُلَّمَا خَتَمَ سُورَةً وَقَفَ وَقْفَةً، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ وَقَفَ وَقْفَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَ السُّورَةَ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ كَبَّرَ كَمَا كَبَّرَ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ أَتْبَعَ التَّكْبِيرَ الْحَمْدَ، وَالتَّصْدِيقَ، وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدُّعَاءَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: يُكَبِّرُ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ إِذَا بَلَغَ " وَالضُّحَى "، بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ تَكْبِيرَةٌ؛ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ وَلَا يَصِلْ آخِرَ السُّورَةِ بِالتَّكْبِيرِ؛ بَلْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ؛ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ تَأَخَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا فَقَالَ نَاسٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَدَّعَهُ صَاحِبُهُ وَقَلَاهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: وَلَا يُكَبِّرْ فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ؛ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ؛ بِأَنْ زِيدَ عَلَيْهِ فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيُثْبِتُوهُ فِيهِ
مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَكْرِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ الْخَتْمِ؛ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى الْمَنْعِ؛ وَلَكِنَّ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْحِكْمَةُ فِي التَّكْرِيرِ مَا وَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ خَتْمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثًا بَعْدَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْخَتْمَةُ؛ فَيَحْصُلُ خَتْمَتَانِ. قُلْنَا: مَقْصُودُ النَّاسِ خَتْمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَإِنَّ الْقَارِئَ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا قَرَأَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُصُولِ خَتْمَةٍ؛ إِمَّا الَّتِي قَرَأَهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا الَّتِي حَصَلَ ثَوَابُهَا بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ خَتْمَةً أُخْرَى.
ثُمَّ إِذَا خَتَمَ وَقَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ، وَقَرَأَ خَمْسَ آيَاتٍ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 5) لِأَنَّ [أَلِفَ الم] آيَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ بَعْضُ آيَةٍ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ، قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَثُّ عَلَى تَكْرَارِ الْخَتْمِ خَتْمَةً بَعْدَ خَتْمَةٍ؛ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَتَعَقَّبُ الْخَتْمَ. فَائِدَةٌ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي بِالْقُرْآنِ، وَاجْعَلْهُ لِي أَمَانًا وَنُورًا وَهُدًى وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ ذَكِّرْنِي مِنْهُ مَا نُسِّيتُ، وَعَلِّمْنِي مِنْهُ مَا جَهِلْتُ، وَارْزُقْنِي تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَاجْعَلْهُ لِي حُجَّةً يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ. رَوَاهُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ.
اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ وَالتَّفَهُّمُ لِمَعَانِيهِ مِنَ الْآدَابِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهَا، وَيُكْرَهُ التَّحَدُّثُ بِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالِاشْتِغَالُ عَنِ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَيْضًا بِالْمَنْعِ مِنْ أَنْ يَشْرَبَ شَيْئًا كُتِبَ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ تُلَاقِيهِ النَّجَاسَةُ الْبَاطِنَةُ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْدِنِهَا لَا حُكْمَ لَهَا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ النِّيهِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ فِيمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ. قَالَ: لَا يَجُوزُ ابْتِلَاعُ رُقْعَةٍ فِيهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَوْ غَسَلَهَا وَشَرِبَ مَاءَهَا جَازَ. وَجَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْلِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي ذِكْرِ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ: أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِي الطَّرِيقِ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَأَخَذَهَا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا مَوْضِعًا، فَأَكَلَهَا فَأُرِيَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ قَائِلًا قَدْ قَالَ لَهُ: قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِاحْتِرَامِكَ لِتِلْكَ الرُّقْعَةِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا فِي " الْقَوَاعِدِ ": الْقِيَامُ لِلْمَصَاحِفِ بِدْعَةٌ لَمْ تُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي " التِّبْيَانِ "؛ مِنِ اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَالْأَمْرِ بِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ بِهِ. وَسُئِلَ الْعِمَادُ بْنُ يُونُسَ الْمَوْصِلِيُّ عَنْ ذَلِكَ: هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ يُكْرَهُ خَوْفَ الْفِتْنَةِ؟ فَأَجَابَ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ مَسْمُوعٌ، وَالْكُلُّ جَائِزٌ، وَلِكُلٍّ نِيَّتُهُ وَقَصْدُهُ.
وَإِذَا احْتِيجَ لِتَعْطِيلِ بَعْضِ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ الْبَالِيَةِ لِبَلَاءٍ وَنَحْوِهِ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهُ فِي شِقٍّ أَوْ غَيْرِهِ لِيُحْفَظَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ وَيُوطَأُ، وَلَا يَجُوزُ تَمْزِيقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْطِيعِ الْحُرُوفِ وَتَفْرِقَةِ الْكَلِمِ؛ وَفِي ذَلِكَ إِزْرَاءٌ بِالْمَكْتُوبِ- كَذَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ؛ قَالَ: وَلَهُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ، وَإِنْ أَحْرَقَهَا بِالنَّارِ فَلَا بَأْسَ، أَحْرَقَ عُثْمَانُ مَصَاحِفَ فِيهَا آيَاتٌ وَقِرَاءَاتٌ مَنْسُوخَةٌ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْإِحْرَاقَ أَوْلَى مِنَ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغُسَالَةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَجَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ بِامْتِنَاعِ الْإِحْرَاقِ؛ وَأَنَّهُ خِلَافُ الِاحْتِرَامِ، وَالنَّوَوِيُّ بِالْكَرَاهَةِ، فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَفَى " الْوَاقِعَاتِ " مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا بَلِيَ لَا يُحْرَقُ بَلْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَيُدْفَنُ. وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا: وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لِتَعَرُّضِهِ لِلْوَطْءِ بِالْأَقْدَامِ.
وَيُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمُصْحَفِ وَجَعْلُهُ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَيَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ بِالْفِضَّةِ إِكْرَامًا لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: " سَأَلَتُ مَالِكًا عَنْ تَفْضِيضِ الْمَصَاحِفِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْنَا مُصْحَفًا، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ فَضَّضُوا الْمَصَاحِفَ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ ". وَأَمَّا بِالذَّهَبِ فَالْأَصَحُّ يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ بِنَفْسِ الْمُصْحَفِ دُونَ عَلَاقَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ؛ وَالْأَظْهَرُ التَّسْوِيَةُ. وَيُحْرَمُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِذْلَالًا وَامْتِهَانًا، وَكَذَلِكَ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ. وَيُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ: لِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يُقَبِّلُهُ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ؛ وَلِأَنَّهُ هَدِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، فَشُرِعَ تَقْبِيلُهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ. وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ الْجَوَازُ، وَالِاسْتِحْبَابُ، وَالتَّوَقُّفُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْعَةٌ وَإِكْرَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ قِيَاسٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ فِي الْحَجَرِ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. وَيَحْرُمُ السَّفَرُ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِلْحَدِيثِ فِيهِ، خَوْفَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ وَرِمَاحُهُمْ، وَقِيلَ: إِنْ كَثُرَ الْغُزَاةُ وَأُمِنَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ؛ لِقَوْلِهِ: مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ وَرِمَاحُهُمْ. وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ؛ وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَتُكْرَهُ كِتَابَتُهُ فِي الْقِطَعِ الصَّغِيرِ؛ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. وَعَنْهُ تَنَوَّقَ رَجُلٌ فِي: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَغُفِرَ لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: " لَيْتَنِي قَدْ رَأَيْتُ الْأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِيمَنْ كَتَبَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يَعْنِي لَا يَجْعَلُ لَهُ سِنَّاتٍ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ ذَلِكَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً. وَيُسْتَحَبُّ تَجْرِيدُ الْمُصْحَفِ عَمَّا سِوَاهُ. وَكَرِهُوا الْأَعْشَارَ وَالْأَخْمَاسَ مَعَهُ، وَأَسْمَاءَ السُّوَرِ وَعَدَدَ الْآيَاتِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: " يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّقْطَ لَيْسَ لَهُ قِرَاءَةٌ، فَيُتَوَهَّمَ لِأَجْلِهَا مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، وَإِنَّمَا هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَى هَيْئَةِ الْمَقْرُوءِ فَلَا يَضُرُّ إِثْبَاتُهَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُصَنَّفِهِ " فِي الصَّلَاةِ وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ الصَّوْمِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ: قَوْلُهُ: " جَرِّدُوا " يُحْتَمَلُ فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا؛ أَيْ جَرِّدُوهُ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي: أَيْ جَرِّدُوهُ فِي الْخَطِّ مِنَ النَّقْطِ وَالتَّعْشِيرِ. قُلْتُ: الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ فِي " مُعْجَمِهِ " عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَدْخَلِ "، وَقَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى نَقْطِ الْمَصَاحِفِ. وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَبْيَنُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ: لَا تَخْلِطُوا بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّ مَا خَلَا الْقُرْآنَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ وَلَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ عَلَيْهَا. وَقَوِيَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْعِرَاقِ خَرَجَ مَعَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَيِّعُنَا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَلَا تَشْغَلُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ فَتَصُدُّوهُمْ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ. قَالَ: فَهَذَا مَعْنَاهُ؛ أَيْ لَا تَخْلِطُوا مَعَهُ غَيْرَهُ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ " بِسَنَدٍ صَالِحٍ حَدِيثَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ ظَالِمٍ لَيَرْفَعَ مِنْهُ، لُعِنَ بِكُلِّ حِرَفٍ عَشْرَ لَعَنَاتٍ.
جَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِلْمُتَمَكِّنِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ؛ وَسُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ " وَالتِّلَاوَةُ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} (الْأَنْعَامِ: 79). وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابٍ إِلَى هِرَقْلَ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 64). وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لِابْنِ عُمَرَ: قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ، وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانَا، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ. وَفَى سِيَاقِ كَلَامٍ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. فَقَصَدَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي مُبَايِعٌ صَاحِبَكُمْ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.. وَقَوْلُ الْخَطِيبِ ابْنِ نُبَاتَةَ: هُنَاكَ يُرْفَعُ الْحِجَابُ، وَيُوضَعُ الْكِتَابُ، وَيُجْمَعُ مَنْ لَهُ الثَّوَابُ، وَحُقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قَالَ: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مَرْيَمَ: 12) وَهُوَ جُنُبٌ، وَقَصَدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ جَازَ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (الزُّخْرُفِ: 13). قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِذَا قَصَدَ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَصَى، وَإِنْ قَصَدَ الذِّكْرَ وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا لَمْ يَعْصِ. وَلِلطُّرْطُوشِيِّ: رَحَلَ الظَّاعِنُونَ عَنْكَ وَأَبْقَوْا *** فِي حَوَاشِي الْأَحْشَاءِ وَجْدًا مُقِيمًا قَدْ وَجَدْنَا السَّلَامَ بَرْدًا سَلَامًا *** إِذْ وَجَدْنَا النَّوَى عَذَابًا أَلِيمًا وَثَبَتَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنِلْنِي بِالَّذِي اسْتَقْرَضْتَ خَطًّا *** وَأَشْهِدْ مَعْشَرًا قَدْ شَاهَدُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَّاقُ الْبَرَايَا *** عَنَتْ لِجَلَالِ هَيْبَتِهِ الْوُجُوهُ يَقُولُ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ أَنَّ تَضْمِينَ الْقُرْآنِ فِي الشِّعْرِ مَكْرُوهٌ، وَأَئِمَّةُ الْبَيَانِ جَوَّزُوهُ وَجَعَلُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، وَسَمَّاهُ الْقُدَمَاءُ تَضْمِينًا وَالْمُتَأَخِّرُونَ اقْتِبَاسًا، وَسَمَّوْا مَا كَانَ مِنْ شِعْرٍ تَضْمِينًا.
يُكْرَهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ بِالْقُرْآنِ، نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ النِّيهِيُّ صَاحِبُ الْبَغَوِيِّ كَمَا وَجَدْتُهُ فِي رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِخَطِّهِ. وَفَى كِتَابِ " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " لِأَبِي عُبَيْدٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتْلُوَ الْآيَةَ عِنْدَ شَيْءٍ يَعْرِضُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُرِيدُ لِقَاءَ صَاحِبِهِ أَوْ يَهُمُّ بِحَاجَتِهِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، فَيَقُولُ كَالْمَازِحِ: {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (طه: 40)؛ فَهَذَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: لَا تُنَاظِرْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَقُولُ: لَا تَجْعَلْ لَهُمَا نَظِيرًا مِنَ الْقَوْلِ وَلَا الْفِعْلِ.
لَا يَجُوزُ تَعَدِّي أَمْثِلَةِ الْقُرْآنِ؛ وَلِذَلِكَ أُنْكِرَ عَلَى الْحَرِيرِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي مَقَامَتِهِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فَأَدْخَلَنِي بَيْتًا أَحْرَجَ مِنَ التَّابُوتِ، وَأَوْهَنَ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ؛ فَأَيُّ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ مَعْنًى أَكَّدَهُ اللَّهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ حَيْثُ قَالَ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 41) فَأَدْخَلَ إِنَّ، وَبَنَى أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَبَنَاهُ مِنَ الْوَهْنِ، وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَمْعِ، وَعَرَّفَ الْجَمْعَ بِاللَّامِ، وَأَتَى فِي خَبَرِ إِنَّ بِاللَّامِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الْأَنْعَامِ: 152)؛ وَكَانَ اللَّائِقُ بِالْحَرِيرِيِّ أَلَّا يَتَجَاوَزَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ، وَمَا بَعْدَ تَمْثِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلٌ، وَقَوْلُ اللَّهِ أَقْوَمُ قِيلٍ، وَأَوْضَحُ سَبِيلٍ؛ وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (الْبَقَرَةِ: 26) وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثَالًا لِمَا دُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوًى وَصَبَابَةٍ عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ خَالِدُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ؛ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (الْأَعْرَافِ: 40) فَقَدْ جَعَلَ وُلُوجَ الْجَمَلِ فِي السَّمِّ غَايَةً لِنَفْيِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، وَتِلْكَ غَايَةٌ لَا تُوجَدُ، فَلَا يَزَالُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مَنْفِيًّا، وَهَذَا الشَّاعِرُ وَصَفَ جِسْمَهُ بِالنُّحُولِ، بِمَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ. وَمِنْ هَذَا جَرَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ سُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ؛ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لَهُ: أَنْتَ تَقُولُ بِالظَّاهِرِ وَتُنْكِرُ الْقِيَاسَ، فَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزَّلْزَلَةِ: 7 وَ 8) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ نِصْفِ ذَرَّةٍ مَا حُكْمُهُ؟ فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ طَوِيلًا وَقَالَ: أَبْلِعْنِي رِيقِي؛ قَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ: قَدْ أَبْلَعْتُكَ دِجْلَةَ، قَالَ أَنْظِرْنِي سَاعَةً، قَالَ: أَنْظَرْتُكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَافْتَرَقَا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا مِنْ مُغَالَطَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَعَدَمِ تَصَوُّرِ ابْنِ دَاوُدَ: لِأَنَّ الذَّرَّةَ لَيْسَ لَهَا أَبْعَاضٌ فَتُمَثَّلَ بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْزَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النِّسَاءِ: 40) فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا لَا يُتَخَيَّلُ فِي الْوَهْمِ أَجْزَاؤُهُ، وَلَا يُدْرَكُ تَفَرُّقُهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: حَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ، فَاعْمَلُوا بِالْحَلَالِ، وَاجْتَنِبُوا الْحَرَامَ، وَاتَّبِعُوا الْمُحْكَمَ، وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ. وَقَدْ عَدَّهُ الشَّافِعِيُّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا ضَرَبَ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ الدَّوَالِّ عَلَى طَاعَتِهِ، الْمُبَيِّنَةِ لِاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَتَرْكِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَظِّ وَالِازْدِيَادِ مِنْ نَوَافِلِ الْفَضْلِ [انْتَهَى]. وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ؛ وَحَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْأَغْمَضِ إِلَى الْأَظْهَرِ؛ وَهُوَ قِسْمَانِ: ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ، وَكَامِنٌ وَهُوَ الَّذِي لَا ذِكْرَ لِلْمَثَلِ فِيهِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَمْثَالِ. وَقَسَّمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرَابَاذِيُّ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا؛ إِخْرَاجُ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْحِسُّ إِلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ، وَثَانِيهَا؛ إِخْرَاجُ مَا لَا يُعْلَمُ بِهِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ، وَثَالِثُهَا؛ إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَرَابِعُهَا؛ إِخْرَاجُ مَا لَا قُوَّةَ لَهُ مِنَ الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قُوَّةٌ [انْتَهَى]. وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: التَّذْكِيرُ، وَالْوَعْظُ، وَالْحَثُّ، وَالزَّجْرُ وَالِاعْتِبَارُ، وَالتَّقْرِيرُ وَتَرْتِيبُ الْمُرَادِ لِلْعَقْلِ، وَتَصْوِيرُهُ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ نِسْبَتُهُ لِلْفِعْلِ كَنِسْبَةِ الْمَحْسُوسِ إِلَى الْحِسِّ. وَتَأْتِي أَمْثَالُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ تَفَاوُتِ الْأَجْرِ، وَعَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَعَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ أَوْ تَحْقِيرِهِ، وَعَلَى تَحْقِيقِ أَمْرٍ بِإِبْطَالِ أَمْرٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (إِبْرَاهِيمَ: 45) فَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (الرُّومِ: 58) وَقَالَ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 43). وَالْأَمْثَالُ مَقَادِيرُ الْأَفْعَالِ، وَالْمُتَمَثِّلُ كَالصَّانِعِ الَّذِي يُقَدِّرُ صِنَاعَتَهُ، [ثُمَّ يُعْرِبُهُ] كَالْخَيَّاطِ يُقَدِّرُ الثَّوْبَ عَلَى قَامَةِ الْمَخِيطِ، ثُمَّ يَفْرِيهِ، ثُمَّ يَقْطَعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ قَالَبٌ وَمِقْدَارٌ، وَقَالَبُ الْكَلَامِ وَمِقْدَارُهُ الْأَمْثَالُ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ سُمِّيَ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ مَاثِلٌ بِخَاطِرِ الْإِنْسَانِ أَبَدًا، أَيْ شَاخِصٌ، فَيَتَأَسَّى بِهِ وَيَتَّعِظُ، وَيَخْشَى وَيَرْجُو، وَالشَّاخِصُ: الْمُنْتَصِبُ. وَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النَّحْلِ: 60) أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَهُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (الرَّعْدِ: 35) أَيْ صِفَتُهَا. وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعْلِيمُ الْبَيَانِ: وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمَثَلُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى الْبَيَانِ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَاذَا كَانَ الْمَثَلُ عَوْنًا عَلَى الْبَيَانِ، وَحَاصِلُهُ قِيَاسُ مَعْنًى بِشَيْءٍ، مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ الْمَقِيسَ فَحَقُّهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ شَبِيهِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يُحْدِثِ التَّشْبِيهُ عِنْدَهُ مَعْرِفَةً؟! وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحِكَمَ وَالْأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ تُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ تَصَوُّرَ الْأَشْخَاصِ؛ فَإِنَّ الْأَشْخَاصَ وَالْأَعْيَانَ أَثْبَتُ فِي الْأَذْهَانِ، لِاسْتِعَانَةِ الذِّهْنِ فِيهَا بِالْحَوَاسِّ، بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ؛ فَإِنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْحِسِّ، وَلِذَلِكَ دَقَّتْ، وَلَا يَنْتَظِمُ مَقْصُودُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ مُجَرَّبًا مُسَلَّمًا عِنْدَ السَّامِعِ. وَفِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَقْصُودِ مَا لَا يَخْفَى؛ إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالشَّاهِدِ بِالْغَائِبِ، فَالْمُرَغَّبُ فِي الْإِيمَانِ مَثَلًا إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالنُّورِ تَأَكَّدَ فِي قَلْبِهِ الْمَقْصُودُ، وَالْمُزَهَّدُ فِي الْكُفْرِ إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ تَأَكَّدَ قُبْحُهُ فِي نَفْسِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا تَبْكِيتُ الْخَصْمِ، وَقَدْ أَكْثَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَفَى سَائِرِ كُتُبِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَفِي سُوَرِ الْإِنْجِيلِ: سُورَةُ الْأَمْثَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّمْثِيلُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِكَشْفِ الْمَعَانِي، وَإِدْنَاءِ الْمُتَوَهَّمِ مِنَ الْمُشَاهَدِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُتَمَثَّلُ لَهُ عَظِيمًا كَانَ الْمُتَمَثَّلُ بِهِ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا كَانَ الْمُتَمَثَّلُ بِهِ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ الْعِظَمُ وَالْحَقَارَةُ فِي الْمَضْرُوبِ بِهِ الْمَثَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ اسْتَدْعَتْهُ حَالُ الْمُمَثَّلِ لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ وَاضِحًا جَلِيًّا تُمُثِّلَ لَهُ بِالضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَمَّا كَانَ بِضِدِّهِ تُمُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ، وَكَذَلِكَ جُعِلَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مَثَلًا فِي الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ [وَجُعِلَ أَخَسَّ قَدْرًا مِنَ الذُّبَابِ وَضُرِبَتْ لِهَذَا الْبَعُوضَةُ]. وَالْمَثَلُ هُوَ الْمُسْتَغْرَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النَّحْلِ: 60)، وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (الرَّعْدِ: 35)؛ وَلَمَّا كَانَ الْمَثَلُ السَّائِرُ فِيهِ غَرَابَةٌ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَثَلِ لِلْحَالِ، أَوِ الصِّفَةِ، أَوِ الْقِصَّةِ، إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ. أَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْحَالِ، فَكَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17) أَيْ حَالُهُمُ الْعَجِيبُ الشَّأْنِ كَحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْوَصْفِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النَّحْلِ: 60) أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَكَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} (الْفَتْحِ: 29)، وَكَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} (الْبَقَرَةِ: 264)، وَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 41) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الْجُمُعَةِ: 5). وَأَمَّا اسْتِعَارَتُهُ لِلْقِصَّةِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (الرَّعْدِ: 35) أَيْ فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ قِصَّةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةُ؛ ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ عَجَائِبِهَا. لَا يُقَالُ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ تَدَاخُلًا، فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ هِيَ وَصْفُهُ، وَوَصْفُهُ هُوَ حَالُهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَصْفُ يُشْعِرُ ذِكْرُهُ بِالْأُمُورِ الثَّابِتَةِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ قَارَبَهَا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ لِلشَّيْءِ وَعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْحَالُ فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الشَّخْصُ مِمَّا هُوَ غَيْرُ ذَاتِيٍّ لَهُ وَلَا لَازِمٍ، فَتَغَايَرَا. وَإِنْ أُطْلِقَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَثَلًا لَهُ فِي الْجِرْمِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا تَعَلَّقُهُ النَّفْسُ وَيُتَوَهَّمُ مِنَ الشَّيْءِ مَثَلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17)؛ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَتَحَصَّلُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ فِي أَمْرِهِمْ، كَالَّذِي يَتَحَصَّلُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَوْقِدِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} (الرَّعْدِ: 35)، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّورَى: 11) لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ وَنَفْيِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ لَيْسَ يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ الْمُتَحَصَّلُ هُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النَّحْلِ: 60)، وَقَدْ جَاءَ: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (مُحَمَّدٍ: 19) فُفِسِّرَ بِجِهَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (الرَّعْدِ: 6) هِيَ الْأَمْثَالُ، وَقِيلَ: الْعُقُوبَاتُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ؛ أَيِ النَّظِيرِ، يُقَالُ: مَثَلٌ، وَمِثْلٌ، وَمَثِيلٌ، كَشَبَهٍ، وَشِبْهٍ، وَشَبِيهٍ. ثُمَّ قَالَ: وَيُسْتَعَارُ لِلْحَالِ، أَوِ الصِّفَةِ، أَوِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَثَلَ- بِفَتْحَتَيْنِ- الصِّفَةُ، كَقَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17)، وَكَذَا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} (الرَّعْدِ: 235). وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْغَرَابَةِ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِكَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ. وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الشَّبَهُ، وَإِلَّا فَالْمُحَقِّقُونَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ- بِالْكَسْرِ- عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَحْسُوسِ، وَبِفَتْحِهَا عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْأَسَدِ فِي صُورَتِهِ مُشْبِهٌ لَهُ فِي جَرَاءَتِهِ وَحِدَّتِهِ، فَيُقَالُ لِلشُّجَاعِ: أَسَدٌ؛ أَيْ يُشْبِهُ الْأَسَدَ فِي الْجُرْأَةِ، وَلِذَلِكَ يُخَالِفُ الْإِنْسَانُ الْغَيْثَ فِي صُورَتِهِ، وَالْكَرِيمُ مِنَ الْإِنْسَانِ يُشَابِهُهُ فِي عُمُومِ مَنْفَعَتِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ كَانَ الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ سِيَّانِ لَلَزِمَ التَّنَافِي بَيْنَ قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّورَى: 11)، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (النَّحْلِ: 60) فَإِنَّ الْأُولَى نَافِيَةٌ لَهُ، وَالثَّانِيَةَ مُثْبِتَةٌ لَهُ. وَفَرَّقَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلشَّيْءِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَالْمَثَلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ. وَقَالَ حَازِمٌ فِي كِتَابِ " مِنْهَاجُ الْبُلَغَاءِ ": وَأَمَّا الْحِكَمُ وَالْأَمْثَالُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا بِجَرْيِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِيهَا، وَإِمَّا بِزَوَالِهَا فِي وَقْتٍ عَنِ الْمُعْتَادِ؛ عَنْ جِهَةِ الْغَرَابَةِ أَوِ النُّدُورِ فَقَطْ؛ لِتُوَطَّنَ النَّفْسُ بِذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ؛ إِذْ لَا يَحْسُنُ مِنْهَا التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِتَحْذَرَ مَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ وَيَحْسُنُ بِهَا ذَلِكَ، وَلِتَرْغَبَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُرْغَبَ فِيهِ، وَتَرْهَبَ فِيمَا يَجِبُ أَنْ تَرْهَبَهُ، وَلِيَقْرُبَ عِنْدَهَا مَا تَسْتَبْعِدُهُ، وَيَبْعُدَ لَدَيْهَا مَا تَسْتَغْرِبُهُ؛ وَلِيُبَيَّنَ لَهَا أَسْبَابُ الْأُمُورِ، وَجِهَاتُ الِاتِّفَاقَاتِ الْبَعِيدَةِ الِاتِّفَاقِ بِهَا؛ فَهَذِهِ قَوَانِينُ الْأَحْكَامِ وَالْأَمْثَالِ قَلَّمَا يَشِذُّ عَنْهَا مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا شَيْءٌ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17). وَقَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} (الْبَقَرَةِ: 19). وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (الْبَقَرَةِ: 26). وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 41). وَقَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الْجُمُعَةِ: 5). وَقَوْلُهُ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (التَّحْرِيمِ: 10) إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} (التَّحْرِيمِ: 12) الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} (الْبَقَرَةِ: 264) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (النُّورِ: 39)، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النُّورِ: 40) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (النَّحْلِ: 92). فَهَذِهِ أَمْثَالٌ قِصَارٌ وَطِوَالٌ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ كَلَامِ الْكَشَّافِ. فَإِنْ قُلْتَ: فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ تَشْبِيهُ أَشْيَاءَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمُشَبَّهَاتِ، وَهَلَّا صَرَّحَ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} (غَافِرٍ: 58). قُلْتُ: كَمَا جَاءَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا فَقَدْ جَاءَ مَطْوِيًّا، ذَكَرَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (فَاطِرٍ: 12)، وَكَقَوْلِهِ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ} (الزُّمَرِ: 29). وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُقَرِّبَةِ لَا يُتَكَلَّفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْءٌ بِقَدْرِ شَبَهِهِ بِهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى مَعْزُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ تُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ تُشَبِّهُ أَشْيَاءَ قَدْ تَضَامَّتْ وَتَلَاحَقَتْ حَتَّى عَادَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الْجُمُعَةِ: 5) فَإِنَّ الْغَرَضَ تَشْبِيهُ حَالِ الْيَهُودِ فِي جَهْلِهَا بِمَا مَعَهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَآيَاتِهَا الْبَاهِرَةِ بِحَالِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارَ الْحِكْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ حَمْلِهَا إِلَّا الثِّقَلُ وَالتَّعَبُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} (الْكَهْفِ: 45)؛ الْمُرَادُ: قِلَّةُ ثَبَاتِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَقِلَّةِ بَقَاءِ الْخُضْرَةِ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مَثَلَيْنِ؛ مَثَّلَهُ بِالْمَاءِ، وَمَثَّلَهُ بِالنَّارِ، فَمَثَّلَهُ بِالْمَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَبِالنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنَ النُّورِ وَالْبَيَانِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَسَمَّاهُ نُورًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِنَارَةِ، فَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ قَدْ مَثَّلَهُ بِالْمَاءِ، فَقَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الْآيَةَ: 17) الْآيَةَ، فَضَرَبَ اللَّهُ الْمَاءَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَسِيلُ الْأَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا، كَذَلِكَ مَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، فَتَأْخُذُهُ الْقُلُوبُ كُلُّ قَلْبٍ بِقَدْرِهِ، وَالسَّيْلُ يَحْتَمِلُ زَبَدًا رَابِيًا، كَذَلِكَ مَا فِي الْقُلُوبِ يَحْتَمِلُ شُبَهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} (الرَّعْدِ: 17)؛ وَهَذَا الْمَثَلُ بِالنَّارِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَيَخْتَلِطُ بِذَلِكَ زَبَدٌ أَيْضًا كَالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو السَّيْلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرَّعْدِ: 17)، كَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ يَمْكُثُ فِي الْقُلُوبِ بِالتَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللَّهُ فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ يَقُولُ كَمَا اضْمَحَلَّ هَذَا الزَّبَدُ فَصَارَ جُفَاءً لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا تُرْجَى بَرَكَتُهُ وَكَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ عَنْ أَهْلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا وَزَرَعُوا، وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، وَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ فَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا بِالنَّارِ، وَمَثَلًا بِالْمَطَرِ، فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17) الْآيَةَ، يُقَالُ: أَضَاءَ الشَّيْءُ وَأَضَاءَهُ غَيْرُهُ فَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، فَقَوْلُهُ: {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} (الْبَقَرَةِ: 17) هُوَ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ تُضِيءَ النَّارُ مَا حَوْلَ مَنْ يُرِيدُهَا حَتَّى يَرَاهَا، وَفِي قَوْلِهِ فِي الْبَرْقِ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 20) ذِكْرُ اللَّازِمِ؛ لِأَنَّ الْبَرْقَ بِنَفْسِهِ يُضِيءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا أَضَاءَ الْبَرْقُ سَارَ، وَقَدْ لَا يُضِيءُ مَا حَوْلَ الْإِنْسَانِ، إِذْ يَكُونُ الْبَرْقُ وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْمُنَافِقِينَ كَالَّذِي أَوْقَدَ نَارًا، فَأَضَاءَتْ، ثُمَّ ذَهَبَ ضَوْءُهَا، وَلَمْ يَقُلِ انْطَفَأَتْ، بَلْ قَالَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 17) وَقَدْ يَبْقَى مَعَ ذَهَابِ النُّورِ حَرَارَتُهَا فَتَضُرُّ. وَهَذَا الْمَثَلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُنَافِقَ حَصَلَ لَهُ نُورٌ ثُمَّ ذَهَبَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (الْمُنَافِقُونَ: 3).
وَقَدِ اعْتَنَى الْأَئِمَّةُ بِذَلِكَ وَأَفْرَدُوهُ، وَأَوَّلُهُمُ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ تَلَاهُ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، وَبَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ، وَابْنُ بُكَيْرٍ، وَمَكِّيٌّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ الْفَرَسِ [وَغَيْرُهُمْ]، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَبِعَهُمُ الرَّازِيُّ؛ وَلَعَلَّ مُرَادَهُمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ؛ فَإِنَّ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَغَيْرِهَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْ كِتَابَ " الْإِمَامُ " لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ؛ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ؛ وَالثَّانِي: مَا يُؤْخَذُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، ثُمَّ هُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِنْبَاطِ الشَّافِعِيِّ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (الْمُؤْمِنُونَ: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (الْآيَةَ: 7)، وَاسْتِنْبَاطِ صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} (التَّحْرِيمِ: 11)، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (الْمَسَدِ: 4) وَنَحْوِهِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ عِتْقَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مَرْيَمَ: 92 وَ93)، فَجَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ مُنَافِيَةً لِلْوِلَادَةِ حَيْثُ ذُكِرَتْ فِي مُقَابِلَتِهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (النِّسَاءِ: 115) وَاسْتِنْبَاطِهِ صِحَّةَ صَوْمِ الْجُنُبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (الْبَقَرَةِ: 187) إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (الْبَقَرَةِ: 187)، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوِقَاعِ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْغُسْلِ إِلَى النَّهَارِ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ الْغُسْلُ فِيهِ. وَالثَّانِي: مَا يُسْتَنْبَطُ مَعَ ضَمِيمَةِ آيَةٍ أُخْرَى، كَاسْتِنْبَاطِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الْأَحْقَافِ: 15) مَعَ قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لُقْمَانَ: 14)؛ وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الرِّضَاعَ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ (ثَلَاثُونَ شَهْرًا) وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِشَيْئَيْنِ مُدَّةً وَاحِدَةً فَانْصَرَفَتِ الْمُدَّةُ بِكَمَالِهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَمَّا قَامَ النَّصُّ فِي أَحَدِهِمَا بَقِيَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِهِ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِالْأَجَلِ الْوَاحِدِ لِلْمَدِينَيْنِ؛ فَإِنَّهُ مَضْرُوبٌ بِكَمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْقَى فِيهَا الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَتَغَيَّرُ إِلْفُهُ، فَاعْتُبِرَتْ مُدَّةً يَعْتَادُ الصَّبِيُّ فِيهَا غِذَاءً طَبِيعِيًّا غَيْرَ اللَّبَنِ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ قَصِيرَةٌ، فَقُدِّمَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِ الْأَسْنَانِ ذِكْرَ الْأَكْثَرِ الْمُعْتَادِ، لَا الْأَقَلِّ النَّادِرِ، كَمَا فِي جَانِبِ الْفِصَالِ. قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ لَا يَعِيشُ غَالِبًا إِذَا وُضِعَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَانَتْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُخَاطَبٍ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَدْخَلَ فِي بَابِ الْمُنَاسَبَةِ، بِخِلَافِ الْفِصَالِ، لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ فِيهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ الْوَلَدُ بِدُونِ ارْتِضَاعٍ مِنَ الْأُمِّ؛ وَلِهَذَا اعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَمَلَتْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا مَحَالَةَ، إِنْ لَمْ تَحْمِلْهُ أَكْثَرَ. وَمِثْلُهُ اسْتِنْبَاطُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ يُعَاقَبُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 93) مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (الْجِنِّ: 23)، وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الدَّهْرِ: 30)، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (الْقَصَصِ: 68)؛ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شَاءَ اللَّهُ، أَنْتَجَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ.
وَلَا بُدَّ لِلْمُفَسِّرِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْآيَاتِ. فَيُسْتَفَادُ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الْكَهْفِ: 49)، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السَّجْدَةِ: 17). وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مَرْيَمَ: 65). وَفِي الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (مَرْيَمَ: 26)، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} (التَّوْبَةِ: 6). وَفِي النَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} (الْحِجْرِ: 65). وَفِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَالْمُقْتَضَى مِنْ قَوْلِهِ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} (التَّكْوِيرِ: 14). وَقَوْلِهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (الشَّمْسِ: 7)، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهَا (كُلٌّ) نَحْوُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} (ق: 21). وَيُسْتَفَادُ عُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (الْعَصْرِ: 2)، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} (الرَّعْدِ: 42)، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} (النَّبَأِ: 40). وَعُمُومُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (التَّحْرِيمِ: 12)، وَقَوْلِهِ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} (الْجَاثِيَةِ: 29)، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْكُتُبِ الَّتِي اقْتُصَّتْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ. وَعُمُومُ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (الْمُرْسَلَاتِ: 11)، وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} (الْأَحْزَابِ: 7)، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (الْأَحْزَابِ: 35) إِلَى آخِرِهَا. وَالشَّرْطُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (طه: 112)، وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (الزَّلْزَلَةِ: 7)، وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (الْبَقَرَةِ: 197)، وَقَوْلِهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (النِّسَاءِ: 78)، وَقَوْلِهِ: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (الْبَقَرَةِ: 150)، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (الْأَنْعَامِ: 68)، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 54). هَذَا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ طَلَبًا مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَمْ يَلْزِمِ الْعُمُومُ. وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (الْجُمُعَةِ: 11)، وَ{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (الْمُنَافِقُونَ: 1). وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَأَكْثَرُ مَوَارِدِهِ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 3)، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 30)، وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 35). وَقَدْ لَا يَعُمُّ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} (الْمُنَافِقُونَ: 4). وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لِلْوُجُوبِ مِنْ ذَمِّهِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ الْعِقَابَ الْعَاجِلَ أَوِ الْآجِلَ عَلَى فِعْلِهِ. وَيُسْتَفَادُ كَوْنُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ ذَمِّهِ لِمَنِ ارْتَكَبَهُ وَتَسْمِيَتِهِ عَاصِيًا، وَتَرْتِيبِهِ الْعِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ. وَيُسْتَفَادُ الْوُجُوبُ بِالْأَمْرِ تَارَةً وَبِالتَّصْرِيحِ بِالْإِيجَابِ، وَالْفَرْضِ، وَالْكَتْبِ، وَلَفْظَةِ (عَلَى) وَلَفْظَةِ (حَقٌّ عَلَى الْعِبَادِ) وَ (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وَتَرْتِيبِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالتَّرْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُسْتَفَادُ التَّحْرِيمُ مِنَ النَّهْيِ، وَالتَّصْرِيحِ بِالتَّحْرِيمِ، وَالْحَظْرِ، وَالْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَذَمِّ الْفَاعِلِ، وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَقَوْلِهِ: (لَا يَنْبَغِي) فَإِنَّهَا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ لِلْمَنْعِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَلَفْظَةِ (مَا كَانَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا) وَ (لَمْ يَكُنْ لَهُمْ)، وَتَرْتِيبِ الْحَدِّ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَفْظَةِ (لَا يَحِلُّ)، وَ (لَا يَصْلُحُ)، وَوَصْفِ الْفِعْلِ بِأَنَّهُ فَسَادٌ، وَأَنَّهُ مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ وَعَمَلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَلَا يُزَكِّي فَاعِلَهُ، وَلَا يُكَلِّمُهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنَ الْإِذْنِ، وَالتَّخْيِيرِ، وَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَنَفْيِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ وَالْإِثْمِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ الشَّيْءَ، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لَنَا، وَجَعَلَهُ لَنَا، وَامْتِنَانِهِ عَلَيْنَا بِهِ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِ مَنْ قَبْلَنَا لَهُ، غَيْرَ ذَامٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ؛ فَإِنِ اقْتَرَنَ بِإِخْبَارِهِ مَدْحٌ دَلَّ عَلَى رُجْحَانِهِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا.
وَيُسْتَفَادُ التَّعْلِيلُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (الْمَائِدَةِ: 38)، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} (النُّورِ: 2)، فَكَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ، يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا عِلَّةً، وَأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ لِأَجْلِهِمَا؛ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ النُّطْقِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لَكِنْ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الِانْفِطَارِ: 13)؛ أَيْ لِبِرِّهِمْ {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الِانْفِطَارِ: 14)؛ أَيْ لِفُجُورِهِمْ. وَكَذَا كُلُّ كَلَامٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ فِي حَقِّ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَحْنَ الْخِطَابِ.
وَكُلُّ فِعْلٍ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ أَوْ مَدَحَهُ، أَوْ مَدَحَ فَاعِلَهُ لِأَجْلِهِ، أَوْ أَحَبَّهُ، أَوْ أَحَبَّ فَاعِلَهُ، أَوْ رَضِيَ بِهِ، أَوْ رَضِيَ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِالطَّيِّبِ أَوِ الْبَرَكَةِ أَوِ الْحَسَنِ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّتِهِ، أَوْ لِثَوَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ نَصَبَهُ سَبَبًا لِذِكْرِهِ لِعَبْدِهِ، أَوْ لِشُكْرِهِ لَهُ، أَوْ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ، أَوْ لِإِرْضَائِهِ فَاعِلَهُ، أَوْ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، أَوْ لِقَبُولِهِ، أَوْ لِنُصْرَةِ فَاعِلِهِ، أَوْ بِشَارَةِ فَاعِلِهِ، أَوْ وَصْفِ فَاعِلِهِ بِالطَّيِّبِ، أَوْ وَصْفِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا، أَوْ نَفْيِ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ وَعْدِهِ بِالْأَمْنِ، أَوْ نَصْبِهِ سَبَبًا لِوِلَايَتِهِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ بِحُصُولِهِ، أَوْ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً، أَوْ أَقْسَمَ بِهِ وَبِفَاعِلِهِ؛ كَالْقَسَمِ بِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَإِغَارَتِهَا؛ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
وَكُلُّ فِعْلٍ طَلَبَ الشَّرْعُ تَرْكَهُ، أَوْ ذَمَّ فَاعِلَهُ، يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ، أَوْ عَتَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لَعَنَهُ، أَوْ مَقَتَ فَاعِلَهُ، أَوْ نَفَى مَحَبَّتَهُ إِيَّاهُ، أَوْ مَحَبَّةَ فَاعِلِهِ، أَوْ نَفَى الرِّضَا بِهِ، أَوِ الرِّضَا عَنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَبَّهَ فَاعِلَهُ بِالْبَهَائِمِ، أَوْ بِالشَّيَاطِينِ، أَوْ جَعَلَهُ مَانِعًا مِنَ الْهُدَى أَوْ مِنَ الْقَبُولِ، أَوْ وَصَفَهُ بِسُوءٍ أَوْ كَرَاهَةٍ، أَوِ اسْتَعَاذَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ، أَوْ أَبْغَضُوهُ، أَوْ جُعِلَ سَبَبًا لِنَفْيِ الْفَلَاحِ، أَوْ لِعَذَابٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، أَوْ لِذَمٍّ، أَوْ لَوْمٍ، أَوْ ضَلَالَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، أَوْ وَصْفٍ بِخُبْثٍ، أَوْ رِجْسٍ، أَوْ نَجِسٍ، أَوْ بِكَوْنِهِ فِسْقًا، أَوْ إِثْمًا أَوْ سَبَبًا لِإِثْمٍ، أَوْ رِجْسٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ غَضَبٍ، أَوْ زَوَالِ نِعْمَةٍ، أَوْ حُلُولِ نِقْمَةٍ، أَوْ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، أَوْ قَسْوَةٍ، أَوْ خِزْيٍ، أَوِ امْتِهَانِ نَفْسٍ أَوْ لِعَدَاوَةِ اللَّهِ وَمُحَارَبَتِهِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، أَوْ سُخْرِيَّتِهِ، أَوْ جَعَلَهُ الرَّبُّ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْحِلْمِ، أَوْ بِالصَّفْحِ عَنْهُ، أَوْ دَعَا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، أَوْ وَصَفَ فَاعِلَهُ بِخُبْثٍ، أَوِ احْتِقَارٍ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ، أَوْ تَوَلِّي الشَّيْطَانِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ وَصْفٍ بِصِفَةِ ذَمٍّ؛ مِثْلِ كَوْنِهِ ظُلْمًا أَوْ بَغْيًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ إِثْمًا، أَوْ تَبَرَّأَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ شَكَوْا إِلَى اللَّهِ مِنْ فَاعِلِهِ، أَوْ جَاهَرُوا فَاعِلَهُ بِالْعَدَاوَةِ، أَوْ نُصِبَ سَبَبًا لِخَيْبَةِ فَاعِلِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حِرْمَانٌ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ وُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، أَوْ أَعْلَمَ فَاعِلَهُ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ حَمَّلَ فَاعِلَهُ إِثْمَ غَيْرِهِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ: (لَا يَنْبَغِي هَذَا)، أَوْ (لَا يَصْلُحُ)، أَوْ أُمِرَ بِالتَّقْوَى عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْهُ، أَوْ أُمِرَ بِفِعْلٍ يُضَادُّهُ، أَوْ هُجِرَ فَاعِلُهُ، أَوْ يُلَاعَنُ فَاعِلُهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ وُصِفَ صَاحِبُهُ بِالضَّلَالَةِ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ قُرِنَ بِمُحَرَّمٍ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، أَوْ جَعَلَ اجْتِنَابَهُ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، أَوْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ قِيلَ لِفَاعِلِهِ: (هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ)، أَوْ نَهَى الْأَنْبِيَاءُ عَنِ الدُّعَاءِ لِفَاعِلِهِ، أَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْعَادًا وَطَرْدًا، أَوْ لَفْظَةِ (قُتِلَ مَنْ فَعَلَهُ)، أَوْ (قَاتَلَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَهُ)، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا يُزَكِّيهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَهُ، أَوْ لَا يَهْدِي كَيْدَهُ، أَوْ أَنَّ فَاعِلَهُ لَا يُفْلِحُ، أَوْ لَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلَا مِنَ الشُّفَعَاءِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ نَبَّهَ عَلَى وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ فَاعِلِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، أَوْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ قُيِّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، أَوْ جَعَلَ الْفِعْلَ سَبَبًا لِإِزَاغَةِ اللَّهِ قَلْبَ فَاعِلِهِ، أَوْ صَرْفِهِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَفَهْمِ الْآيَةِ، وَسُؤَالُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ عِلَّةِ الْفِعْلِ، (لِمَ فَعَلَ) نَحْوُ: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} (آلِ عِمْرَانَ: 99)، {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} (آلِ عِمْرَانَ: 71)، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} (ص: 75)، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصَّفِّ: 2) مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ؛ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ جَوَابٌ كَانَ بِحَسْبِ جَوَابِهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَطْرَدُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَرَاهَةِ. وَأَمَّا لَفْظَةُ (يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، وَقَوْلُهُ: {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الْإِسْرَاءِ: 38)، فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَأَمَّا لَفْظُ (أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُ) فَالْمُحَقَّقُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ: (أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا)، وَأَمَّا لَفْظَةُ (مَا يَكُونُ لَكَ) وَ (مَا يَكُونُ لَنَا) فَاطَّرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمُحَرَّمِ، نَحْوُ: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} (الْأَعْرَافِ: 13)، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} (الْأَعْرَافِ: 89)، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (الْمَائِدَةِ: 116).
وَتُسْتَفَادُ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ الْإِحْلَالِ، وَرَفْعِ الْجُنَاحِ، وَالْإِذْنِ، وَالْعَفْوِ، وَ (إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ)، وَ (إِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ)؛ وَمِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ نَحْوُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} (النَّحْلِ: 80)، {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النَّحْلِ: 16) وَمِنَ السُّكُوتِ عَنِ التَّحْرِيمِ، وَمِنَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ؛ وَهُوَ نَوْعَانِ: إِقْرَارُ الرَّبِّ تَعَالَى، وَإِقْرَارُ رَسُولِهِ إِذَا عُلِمَ الْفِعْلُ، فَمِنْ إِقْرَارِ الرَّبِّ قَوْلُ جَابِرٍ: (كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ)، وَمِنْ إِقْرَارِ رَسُولِهِ قَوْلُ حَسَّانَ: (كُنْتُ أَنْشُدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الْأَعْرَافِ: 31) جَمَعَتْ أُصُولَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا، فَجَمَعَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ.
تَقْدِيمُ الْعِتَابِ عَلَى الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: فِي الْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةَ وَالْأَحْزَابِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَعَبَسَ خِلَافًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ جَعَلَ الْعَتْبَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ.
لَا يَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِمَمْنُوعٍ عَنْهُ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ الِامْتِنَانُ إِلَى خَلْقِهِ لِلصَّبْرِ عَلَيْهِمْ.
التَّعَجُّبُ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْفِعْلِ، نَحْوِ: عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ ، وَ تَعَجَّبَ رَبُّكَ مِنْ رَجُلٍ ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} (الرَّعْدِ: 5)، وَقَوْلِهِ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 12)، وَقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 28)، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 101). وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ حُسْنِهِ، كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} (التَّوْبَةِ: 7). وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْمَنْعِ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ فِعْلُهُ، كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 86)
إِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ صُيِّرَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ، ثُمَّ وَرَدَ حُكْمٌ آخَرُ مُطْلَقًا نُظِرَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إِلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ اشْتِرَاطِ اللَّهِ الْعَدَالَةَ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقِهِ الشَّهَادَةَ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا؛ وَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ. وَمِنْهُ تَقْيِيدُ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النِّسَاءِ: 12) وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَانَ مَا أَطْلَقَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ. وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَطْلَقَهَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ، وَالْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ فِي وَصْفِ الرَّقَبَةِ. وَكَذَلِكَ تَقْيِيدُ الْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي التَّيَمُّمِ. وَكَذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (الْمَائِدَةِ: 5) فَأَطْلَقَ الْإِحْبَاطَ عَلَيْهِ، وَعَلَّقَهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمُوَافَاةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 217) فَقَيَّدَ الرِّدَّةَ بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا وَالْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَيْهَا، وَأَلَّا يُقْضَى بِإِحْبَاطِ الْأَعْمَالِ إِلَّا بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَرَّعَ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ. وَمِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْرِيمُ الدَّمِ وَتَقْيِيدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ، وَقَوْلُهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (النِّسَاءِ: 43)، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مِنْهُ} (الْمَائِدَةِ: 6). وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (الشُّورَى: 20) فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: نَحْنُ نَرَى مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ! قُلْنَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (الْإِسْرَاءِ: 18)، فَعَلَّقَ مَا يُرِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (الْبَقَرَةِ: 186)، وَقَوْلُهُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غَافِرٍ: 60) فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ.
اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ هَلْ هُوَ مَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ، عَلَى مَذْهَبَيْنِ؛ فَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَرَبَ مِنْ مَذْهَبِهَا اسْتِحْبَابُ الْإِطْلَاقِ اكْتِفَاءً بِالْمُقَيَّدِ وَطَلَبًا لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (ق: 17) وَالْمُرَادُ (عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ)؛ وَلَكِنْ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ؛ فَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ كَالْمُقَيَّدِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالِاتِّحَادِ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَمَحْسُوسٌ تَعَدُّدُهَا، وَفِيهَا الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ؛ كَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّقَائِضِ الَّتِي لَا يُوصَفُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ بِأَنَّهُ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: كَإِطْلَاقِ صَوْمِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقُيِّدَتْ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَبِالتَّفْرِيقِ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَلَمَّا تَجَاذَبَتِ الْأَصْلَ تَرَكْنَاهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ؛ فَأَمَّا إِذَا حُكِمَ فِي شَيْءٍ بِأُمُورٍ لَمْ يُحْكَمْ فِي شَيْءٍ آخَرَ يَنْقُضُ تِلْكَ الْأُمُورَ وَسُكِتَ فِيهِ عَنْ بَعْضِهَا، فَلَا يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ؛ كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ، وَذَكَرَ فِي التَّيَمُّمِ عُضْوَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ. وَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ؛ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي إِبْدَالِ الطَّعَامِ عَنِ الصِّيَامِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} (النِّسَاءِ: 23) أَنَّ اللَّامَ مُبْهَمَةٌ، وَعَنَوْا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً.
|